( 3 )
الوجوه الجديدة في هذه الحلقة
غادة
فاضل الجابر
فجأة لمحت~ زمردة ~ طيفه يظهر لها من بين ألوان قوس قزح المصطبغة مع لون السماء بينما كانت الطائرة تهوى ولا وقت لأن يكون لأحدهم فرصة لأن يتفكر أو يتأمل ، بقدر ما فوجئت بذلك بكثر ما شعرت بالكراهية الشديدة نحوه فربما كان هو السبب الأول لكرهها الرجال ، لن تنسى لحظة واحدة معاملته القاسية لوالدتها وضربه إياها بسبب أو بدون سبب ولن تنسى لحظة واحدة كيف تخلى عنهما في أكثر الأوقات حاجة له رغم توسلات والدتها له بالبقاء ولكنه رحل ببساطة مع صفعة على وجه الأم ونظرة حاقدة للابنة تلتها رفسة في الخاصرة ، كرهته وكرهت معرفتها إياه ، أوقات عصيبة من القهر والذل وهو يأتي إلى المنزل ثملاً بعد حفلاته الصاخبة مع أصدقاء السوء الذين يرافقهم ، وشتى أنواع العذاب يلحقه بعائلته وسرقاته غير المنتهية للنقود التي تدخره زوجته لمصاريف المنزل .
غادر ولم تعرف عنه شيء بعد ذلك ، ولم يلوح لها طيفه قبل الآن فقد كانت تكره سيرته من أعماق قلبها ولا تحب أن يذكرها أحداً لها ، وكم وبخت والدتها التي ماتت فيما بعد بالمرض الخبيث عندما تحن إليه أو تذكر بعض المواقف الضاحكة لهما .
أصبحت الطائرة تتجه بسرعة مهولة إلى البحر و izaq عاجز عن التحكم بها وقد انقطعت الكهرباء عنها بشكل غريب ومفاجئ فتيقن بالهلاك واستحالة النجاة إلا بمعجزة ولا يظنها سوف تأتي إليهم فتلفت مودعاً صديقه هاني بن محمد الذي بدأت هلوسته وجنونه في الظهور بشكل غريب حتى أنه قام من مكانه بصعوبة وأخذ قضيب معدني وأخذ يضرب النافذة بشدة ليكسرها ، حاول izaq أن يمنعه ولكن ميلان الطائرة وترنحها في الجو صعب الأمر عليه ولم يصل إليه إلا بعد أن تسرب الهواء العاصف إلى قمرة القيادة فاصطدم izaq بالجدار وأغمى عليه .
شعر jawad أنه ينجرف إلى مؤخرة الطائرة المشطور فحاول أن يتمسك بالمقعد الذي بجانبه ولكن يده انزلقت منه فنظر تجاه زهدي الذي كان بيده الشريط المطاطي فنظر إليه نظرة رجاء أن يمد إليه الحبل ولكن وربما بسبب الخوف والهلع الذي أنتاب الطبيب البيطري فقد عجزت يده أو أي جزء من جسمه الإتيان بحركة تدل على الرغبة بالمساعدة فأغمض عينيه ونكس رأسه .
أخذ الهواء المتدفق بقوة يجرف jawad إلى الخلف رغم أن الطائرة كانت تهوي للأسفل وكأن قوة مغناطيسية تجذبه ولم تفلح جميع محاولاته في التمسك بشيء ما فنظر بيأس تجاه الركاب الذين تشبثوا في مقاعدهم وأغمضوا عينوهم في انتظار النهاية المؤلمة .
انزلقت أصابع jawad من طرف الطائرة وطار في الهواء لحظة توقف الطائرة أو تعلقها بطريقة عجيبة في الهواء بشكل مفاجئ سقطت بعدها وانزلقت على صفحة الماء ثم اصطدمت برمال الشاطئ بقوة فتطايرت الشظايا الخارجية وتكسرت النوافذ وانقلبت رأساً على عقب .
فتحت زينب عبدالله عينيها بعد الصدمة المهولة فوجدت معظم الركاب في حالة إغماء إلا من البعض الذين أفاقوا وهم في حالة هستيرية بين البكاء والألم ، وجدوا أنفسهم في هذه الحالة المزرية وبعض الدماء تنزف منهم بشكل متقطع من الأنف أو الفم . حاولت الحراك ولكنها لم تستطع فالحزام الذي ربطته في لحظة استقرار الطائرة اللحظي منعها من الحركة وشد على خصرها بقوة فحاولت التخلص منه ولكنها لم تفلح ، انتابها شعور بالنعاس فاستسلمت له بدون مقاومة تذكر فاستغرقت في نوم عميق وقد بدأ رأسها ينزف من جديد .
كم من الزمن مضى ؟ أين هو الآن ؟ لم يستطع jawad أن يجيب على هذين السؤالين سوى الشعور بمزيد من الألم في جميع أنحاء جسمه وخاصة منطقة الوجه التي يشعر فيها بالحرارة الشديدة تكاد أن تسلخ وجهه ، حاول أن يتذكر ما بعد سقوطه من الطائرة ولكنه فشل في ذلك سوى تعلقه للحظات في وسط السماء بفعل قوى مجهولة بعد احتكاك شديد في الهواء جعل ملابسه تتمزق وربما تحترق ، أغمي عليه بعدها ولم يستيقظ إلا وهو على الرمال الناعمة التي أضافت لعذابه مزيداً من العذاب ، تلفت يمنة ويساراً ليستطلع المكان الذي هو فيه ولكن الرؤية رغم قوة الضوء لم تكن واضحة فعلى ما يبدو أن احتكاكه الشديد قد أثر على رؤيته البصرية فحاول أن يستسلم للنوم أو يتحرك من مكانه بعيداً عن أشعة الشمس الحارقة ولكنه فشل في ذلك فيبدو أن أحد رجليه أو كلاهما قد أصابهما الكسر وربما الشلل، لم يستطع أن يحدد بعد ، ولكن وفي لحظات المحاولة للخروج مما هو فيه سمع خطوات حذرة تقترب منه ، أصاخ السمع جيداً ولكن الحركة توقفت ، كل ما كان يخشاه ويخاف منه بل يرتعب منه أن تكون هذه الأصوات هي لبعض الكلاب أو الحيوانات المفترسة فأصابه الذعر لمجرد التفكير في ذلك .
اطمأن قليلاً عندما أستطاع أن يميز أن الخطوات هي لبشر لا لحيوان فحاول أن يستنجد ولكنه صوته خانه وكاد أن يصرخ بقوة عندما شعر أن يد أحدهم تجره بدون رحمة من يده على الرمال فانطلقت آهة بأنين مكتوم منه تخفي في داخلها صرخة عظيمة .
فتح izaq عينيه بصعوبة فحاول أن يلتفت بحثاً عن صديقه هاني بن محمد ولكنه فشل في ذلك فقد شعر بأن يديه ورجليه مقيدتين وهو ملقاً على بطنه فصرخ بقوة وهو يستنجد بمن حوله ولكن ركلة من اشتباه في خاصرته ألجمت الصرخة في مكانها فاغرورقت عيناه بالدموع بديلاً عن صرخته المتوحشة وحاول أن يستجمع شجاعته من جديد والتفت ناحية جهة الركلة ولكن قدم اشتباه كانت بالمرصاد حيث وضعتها على رأسه وهي تتكلم مع أحد الجنود :
- هل هناك المزيد منهم ؟
- هذا هو أخرهم .. يبدو أنه قبطان الطائرة ؟
- وحيداً في قمرة القيادة ؟
- على ما يبدو ذلك .. ولكن إحدى النوافذ كانت مهشمة .
- ربما بفعل السقوط .
قالت جملتها الأخيرة وأمرت الحراس بوضع القبطان في العربة مع بقية الأسرى ، حمله أحدهم بخفة والقاه وكأنه كيس قمامة في العربة فوقع على زهدي الذي بدأ يستيقظ لتوه وعندما شعر بحالته بدأ يبكي كطفل صغير منادياً أمه ( رحمها الله ) ويتأسف لأبنائه على تقصيره معهم وبحثه الدءوب عن المال والمتعة بدلاً من رعايتهم رغم نظرة الحزن في عيونهم كأنهم يتامى إلا أنه تغافل عن ذلك وانطلق وراء شهواته ، فأخذ يتذكر ماضيه الأسود ( من وجهة نظره ) ويعدد الأمور التي كان يجب أن يعملها وتأسف كثيراً أنه لم يحج لبيت الله رغم قدرته على ذلك وفضل السفر مع صديق السوء الذي معه في رحلة لم تكن بريئة إلى بلد الأحلام . فندم وعض شفاه الندم لحظة التقاء عيناه بعيني نسيم الذي كان يشعر بالشعور ذاته فكره صديقه هذا أشد الكره وتمنى لحظتها لو كان يمتلك آلة الزمن ليكفر عن خطيئته وقال في نفسه بصوت مسموع :
- رب أرجعون
وحاول أن يصرخ من جديد ولكن رجل ~ زمردة ~ التي بدأت لتوها في استيعاب ما يجري سدت فمه الممتلئ باللعاب من شدة البكاء ، أخذت ~ زمردة ~ تحاول أن تستنجد بصديقتها آلاء التي يبدو وكأنها مازالت مستغرقة في نومها ، عرفت ذلك من خلال صوت تنفسها الذي حفظته عن ظهر قلب طوال الرحلة المشئومة ، فغرقت في دوامة من التفكير في هذا الأمر الغريب .
جزيرة المنبوذين ، يقطنها من لا هوية له ومن لا إنتماء له فهو لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، نبذهم الجميع سواء نظام أبو حسام أو الثوار فعزلوا في هذه الجزيرة وأقيمت الحراسة المشددة عليهم لكيلا يخرجوا من هذا المكان – السجن .
جريمة سكان الجزيرة متنوعة فمن مرض معدٍ إلى عدم القدرة على العمل بسب الإصابة أو المرض أو التقدم في السن ، جزيرة المبوذين هي جزيرة من لا جزيره له ، منفى محاط بأشجار الأثل والأعشاب البرية المتنوعة والتي وجدها بعض السكان محاولة أخيرة لشفاء بعض الأمراض المستعصية فانتشر بينهم الدجل والشعوذة والسحر .
عندما سقط الجزء الآخر من الطائرة هلعت ملكة المنبوذين غادة ، ( والتي انتخبها الشعب لحكمتها وبراعتها في فن الطب الشعبي والسحر والشعوذة وقراءة الحظ ) ، فرمت بحجارتها الصغيرة الملونة لتستجلب علم الغيب ومعرفة ماهية الجسم الساقط من السماء فزاغت عيناها ونظرت تجاه خادمها فاضل الجابر التي انتقل إليه الخوف وسألها :
- خيراً يا سيدتي الملكة ؟
- هلم بنا إلى الشاطئ فالأرواح تنبئني أن الخلاص قرب وقته .
انطلقت الملكة غادة ومعها حاشيتها إلى الجزء المشطور والذي ينطلق منه الدخان بكثافة وحالما وصلوا إلى هناك ظهر شبح من خلال الدخان يترنح فجثا الجميع للشبح الأسود وهم يهتفون :
- عاش مخلصنا القادم من السماء ، عاش الذي كنا ننتظره منذ سنين عديدة .
وصلت القافلة التي كانت تسير ببطء شديد نحو مركز القيادة وحالما توقف الجميع ترجلت اشتباه من حصانها وتقدمت نحو سيدها أبو حسام الذي أضاف عليه ضوء الشمس لحظة الغروب منظر بهي ومهيب وقبل أن تصل إليه التفت ناحية جلاد الموت أحمد علي الذي ابتسم تجاهها ابتسامة متوحشة أظهرت سنه الذهبي فبلعت ريقها بصعوبة بالغة وتقدمت إلى مولاها أبو حسام ومعها التحية بإجلال وتقدير :
- هاهم العبيد بين يدي سيدي .
نظر إليها أبو حسام وأخذ يلتفت وكأنه يبحث عن شيء ينتظره بفارغ الصبر :
- وأين هي علب الشوكلاتة ؟
- لم نجد شيئاً يا سيدي ، فلربما كانت في الجزء الأخر من الطائرة .
غضب أبو حسام لدى سماعه هذا النبأ المزعج فصفع أشتباه بكل ما أوتي من قوة :
- أنت تعلمين مدى حبي للشوكلاتة . كان عليك الذهاب للشطر الآخر والبحث عنها .
- الشطر الأخر كان سيسقط بالقرب من جزيرة المنبوذين .
- حتى ولو كان بالقرب من موقع الثوار . لقد فشلت في مهمتك .. كان عليَّ منذ البداية نفيك إلى المنجم
فوراً ما أن سمع أحمد علي هذا القرار حتى استل سيفه الفولاذي وأخرج قيوده مكشراً:
- هل تريد نفيها الآن يا مولاي أم حز رقبتها ؟
فوراً جثت اشتباه عند رجلي سيدها :
- لا يا سيدي .. أرجوك .. سوف انطلق الآن وبأقصى سرعة إلى المكان المحدد وأتيك بها .
قالت جملتها الأخيرة وحملت نفسها بسرعة رغم ترنحها من شدة الضربة قبل أن يعترض سيدها وركبت حصانها وانطلقت مسرعة لا تلوي على شيء .
أخذ أبو حسام يتنقل من بين الأسرى الذين وضعهم الحرس أمام ناظريه ليقرر مصيرهم فمر بجانب زينب عبدالله المصابة في رأسها والتي لا تكاد أن تفيق فسأل عن حالتها فأخبره جلاد الموت الذي وصله التقرير المفصل من قبل عما فيها :
- اذهب بها إلى المعالج واجعله يداويها فأنا أريدها أن تكون في خدمتي خلال أسبوع واحد على الأكثر .
تابع أبو حسام جولته من بين الركاب الذي يملأ صدورهم الرعب لرؤيتهم إياه ونظر شزراً للطبيب البيطري وهو ينظر إليه بنظرة استعطاف فلطمه على خده سقط أرضاً على أثرها . وأمر حراسه بأخذه إلى منجم الفحم وقبل أن ينفذ الحرس أمر سيدهم كان الأخير قد التفت للنائمة بجوار ~ زمردة ~ والتي ملأ شخيرها المكان فوكزها بعصاه حتى جفلت وهي لا تعلم عما يحدث هنا فنظرت إليه بنظرة بها الكثير من الكسل وعدم الشبع من النوم فتثاءبت بملء فمها مما أغضب أبو حسام لرؤيته لأسنانها المتفرقة وهم بلطمها ولكن ~ زمردة ~ الغاضبة داخل قرارة نفسها والتي طفح الكيل فيها مما تراه هجمت على أبو حسام بكل قوة تريد الفتك به ولكن الزعيم القوي والذي فوجئ بحركتها الشجاعة ابتعد بسرعة عنها فوقعت على وجهها في التراب وسقط هو أيضاً بعدما سمع بعضهم صوت طقطقة عظام الضلوع ، وسرعان ما عدلت نفسها وهمت بالهجوم لولا ذلك الصوت المبحوح الذي جاء من خلف رجال أبو حسام وهو يقول :
- ~ زمردة ~ ؟ .. كفي عن ذلك
هلعت ~ زمردة ~ لسماعها هذا الصوت المألوف ، التفت ناحيته وكانت الصدمة غير المتوقعة :
- أبي ؟
نظر أبو حسام جهة الرجل العجوز باستغراب شديد وهو يقول :
- هل هذه أبنتك يا .... سنابسي الهوى ؟
يتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق