فقدتها ... مثلما فقدتكِ ، كان مجرد حدس داخلي يقول لي بأن هذا هو الفجر الأخير وأننا لن نلتقي .
لم يكن بيني وبينها إلا لغة العيون ، تحكي لي وأحكي لها من طرف العين الخفي وعندما تلتقي ترتبك ، تجفل ، تبتعد ، تبحث لها عن مأوى أخر تلجأ إليه في الوسط المحيط من الأصدقاء .وفي ذات الوقت تبدأ في سرد قصة ، قصة ليس لها نهاية ، ربما هي قصتي معكِ وربما تلك القصص الخرافية التي طالما حكيتها لكِ .
هل هي أنتِ ؟ أو أنكِ كنت مجرد حلم وهاهو يتحقق ؟ ربما ، لن أستطيع الجزم بذلك ، فصورتك الزمنية أصبحت مشوشة ولم يتبقى في ذاكرتي سوى نظراتك المشعة والتي رأيتها مرة أخرى فيها ، ذات الإشعاع المنبثق منها والذي أخترق قلبي من الوهلة الأولى حتى كدت أن أسقط من السلالم البيضاء عندما رأيتك فيها .
كنت على وشك إطلاق صرخة قائلاً
- وأخيراً وجدتك
ولكنني تطلعت لنفسي بغرابة وأوقفت جموحي بعدما ابتعدت خطواتها ترافقها ابتسامة مخفية وغامضة ، شعرت حينها أنها قد تكون أدركت مدى ارتباكي أو أنها قد عرفتني بطريقة ما .
واختفت عن ناظري ووقفت حائراً ، نسيت هدفي من الصعود على السلم .. أين كنت متجهاً ؟ إلى من ؟ وجدت نفسي أقف بكل حيرة تائهاً ، لا أعرف ماذا أفعل .
عندما التقيت بك والتقت فيها عيوننا لم نستطع إخفاء ابتسامتنا ، كلمة عابرة جرت وراءها كلمات لم تتوقف . بدأت في اكتشافكِ بفرحة كانت قصيرة لأنها كانت مجرد لحظة وابتعدت خطواتك لأقف بعدها حائراً عند السلالم البيضاء اتسأل في في قرارة نفسي إلى أين كنت متجهاً ؟ وهل كنت أصعد السلم ؟ أم كنت للتو نازلاً منه ؟ وعندما اختفيتِ بحثت عنك بعيون يملؤها الخوف أن أفقدكِ .
كنت أشعر لأول وهلة أني أعرفكِ مسبقاً ، ولكن أين ؟ هل كنتِ ذات يوم حلم ما يتحقق لي الآن ؟ ورؤيا سابقة آن لها الأوان أن تصبح حقيقة ؟
كانت أختي تنظر بغرابة نحونا ونحن نتبادل الحديث في لقاءنا الثاني ، كنت أشعر بنظراتها المتسألة عن نوع الألفة التي جمعتنا منذ الوهلة الأولى . لم تكوني تدركين الرسائل السرية التي أوصلتها لي عينا أختي الأصغر سناً . كنتِ تتحدثين حينها عن عائلتك ، عن أمك ، وكنت مستمعاً بارعاً لأحاديثك الشيقة ولكني في نفس الوقت كنت أراود نفسي بأن المس يدكِ الصغيرة القابضة على السياج الذي يطل على ساحة الفندق ، كنت أبحث عن عذر لتلك الفكرة التي طرأت على ذهني الطفولي ، ولكن العيون التي كانت تراقبنا حالت دون استمراري في التفكير بذلك . وعدت أبتسم من جديد لفكرة أخرى بأن أدعوكِ لتناول مرطب ما من البقالة المجاورة للتخلص من العيون الفضولية ولكني كنت خائفاً من فعل ذلك وها أنا الآن بعد مرور عشرين سنة أكثر جبناً من أن أقترب منها وأبادلها الحديث كما فعلت معكِ كنت أشعر بالفشل معها بعكسك فقد سحرتك بخيالي المتنامي وحكاياتي الخرافية التي قمت ببطولتها لكي آسركِ في عالمي . كانت جالسة في بهو الفندق وكنت جالساً خلفها من الجهة اليمنى ، لمحت عينيها اللامعتين عندما تحدثت مع صديقتها الجالسة معها . عادت لي صورتكِ مرة أخرى فأغمضت عيني وبدأت في تذكر قصصي الخرافية التي لم تنتهي ، بعدها فتحت عيني تجاهها فوجدتها صامتة ، مبهوتة ، تنظر إلى الفراغ وابتسامتها العذبة قد تلاشت وكأن قصصي الخرافية معكِ كانت مفاجأة لها ، وماهي إلا لحظات حتى التفتت بشكل مفاجئ تجاهي فجفلت ، وابتعدت عيناي نحو كرسي قريب في فزع واضح . شعرت حينها أن قصتي معك قد وصلتها وكأنها تعرفكِ أو تعرفني .
وبقيت في مكانها على ذلك الكرسي الخشبي رغم الحاح صديقتها بالذهاب معها إلى السوق ، وبقيت أنا أنظر إلى جهتها ونظراتها نحو الفراغ وكأنها تستحثني أن أكمل حكاياتي الخرافية التي وعدتك بإكمالها قبل السفر .
لم أنهض من مكاني ولم تتحرك هي ولكننا أغمضنا عيوننا وشرعت في إكمال الحكاية حتى انتهيت منها ففتحت عيني فوجدتها تنظر إلى الفراغ كالمعتاد ولكن ابتسامتها كانت تشق وجهها الطفولي البريء .
من قام أولاً ؟ أنا أم هي ؟ ولماذا ؟ لا أتذكر .
هل استدعتك أمك كالعادة ؟ أم قمت ملبياً لنداء أمي لغرض ما ؟ أيضاً لا أتذكر .
ولكن في كلتا الحالتين وقفت لفترة من الزمن منتشياً بفضل بطولاتي في قصصي الخرافية والتي جعلتك تذهلين وأنت تبحثين عن ذلك الحزام الخفي الذي يمدني بقوة لا مثيل لها . مشيت بخطوات شبه واثقة أدور في أنحاء الفندق باحثاً عنكما من جديد .
وعندما حل الليل الأخير كنت واقفاً خلف السياج المطل على نافذتكِ أراقبكِ وأنت تحاولين النوم ، وتلتقي العيون فنبتسم معاً وأرى في عينيكِ إلحاح شديد لرؤيتي مرة أخرى قبل السفر .
كنت أنظر إليها في ذلك الليل الأخير وهي تتكلم مع صديقاتها وعندما التقت عيوننا المرتبكة من خلف السياج استعدنا في ومضة سريعة ذكريات الأمس البعيد ترافقها ابتسامة جزعة بأننا لن نلتقي مرة أخرى .
وقفت طويلاً خلف السياج أنتظر الفجر المحمل بالألم , وعندما أويت إلى فراشي لم أذق النوم لحظتها .. كنت أتقلب باستمرار مع أتساع العينين بأقصى ما يمكن .
حانت اللحظة ولم أستطع ترك الفراش .. سمعت صوت المؤذن وجبنت وأنا أتخيل حقائب السفر .. حاولت المقاومة وبعد جهد جهيد وبشجاعة متأخرة تجولت بنظري وأنا أرى باب الغرفة مشرعاً .. ليس فيها إلا بقية من بعض القصص الخرافية التي وزعتها هنا .... وهناك .
6 / 8 / 2003
الغردقة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق