( 1 )
- كوني صخرة ، كوني قطرة ماء ، كوني حفنة رماد خالية من المشاعر ، المشاعر هي من يقتلنا ، المشاعر هي الألم الذي يهزمنا ، لا تستسلمي لها مهما كان الثمن
استيقظت اشتباه على صوتها القاسي الذي علمها الجندية ، في لحظات ما نست هذا الدرس العميق ، تلفتت في أنحاء الغرفة الشحيحة من الضوء والهواء ، حاولت أن تأخذ نفساً عميقاً لتستجمع قواها ولكن الرطوبة الخانقة جعلتها تشعر بالاختناق أكثر ، حاولت تحرير يديها المكبلتين بيدين آلاء الرخوة ولكنها عجزت فسما تعرف ما تفعل .
ما يشعرها بالقلق أكثر هو حالة التراخي في الجسد المترهل الذي يلتصق بها فلا هي حية ولا ميتة بل هي أقرب للموت ولولا صوت التنفس الذي تطلقه آلاء لظنت أنها ميتة بالفعل حتى مع الوكزات بالكوع لم يجدي معها . فكرت أن تتكلم معها ولكنها خشيت من مديرة المنجم التي لا تفوتها فائتة ، نظرت ناحية الباب فصدق ظنها فالحارس ملتصق بالباب كما هو متوقع ، إذن أدنى همسة أو صوت سيطل الحارس مباشرة وعلى حسب معرفتها بخوف الحارس من مديرته فسوف ينهال السوط على جسديهما بدون رحمة . الهرب من هذا المكان شبه مستحيل إن لم يكن مستحيلاً بالأصل .
- كوني صخرة ، كوني قطرة ماء ، كوني حفنة رماد خالية من المشاعر ، المشاعر هي من يقتلنا ، المشاعر هي الألم الذي يهزمنا ، لا تستسلمي لها مهما كان الثمن
عاود الصوت رنينه في قلبها من جديد ، حاولت أن تتجاهله ولكنها في قرارتها تعلم مدى حقيقته . رفعت عينيها إلى أعلى لربما تجد ما يعينها ولكن السقف كان عبارة عن حجارة متراصة على بعضها بقسوة وصلابة ، النتوءات بارزة وكأنها تستعد للسقوط على الضحايا .
أصدر الباب صريراً مزعج مصاحباً معه كمية هائلة من ضوء الشمس مما جعل اشتباه تغمض عينيها لا إرادياً ، لفحة الهواء الساخنة جعلت آلاء النائمة تستيقظ وكأنها صحت من كابوس مزعج أردفتها بشهقة ثم عاودت النوم مجدداً. اقتربت الخطوات الرتيبة من السجينتين ، استعدت المقاتلة الأمازونية السابقة لركلات الخاصرة التي تشتهر بها سما ، فقبضت على عضلات القفص الصدري بعد أخذ نفس عميق صامت ، ولكن ما توقعته لم يحدث فقد توقفت الخطوات بعيداً أعقب ذلك صوت رجولي لأول مرة تسمعه .
- ما علمته أنك كنتِ مقاتلة أمازونية ، هل هذا صحيح ؟
وكأن اشتباه لم تسمع السؤال ، فتحت عينيها ناحية شبح الظل الذي يقف أمامها مباشرة والذي لم تستطيع أن تتبين ملامحه بسبب الضوء الساقط من خلفه .
- من معي ؟
- صديق .
جلسات الاستجواب تعرفها جيداً فقد تعلمت على أمهر السجانات على الإطلاق في جزيرة الأمازونيات ، تعلمت حيل المحققين وطريقة استخراج المعلومة بشتى الوسائل ، تارة بالتعذيب وتارة بالترهيب وتارة بالشفقة وأحياناً بتكوين صداقات مع المساجين . ولكن أن يتم ذلك مباشرة وضع علامات استفهام في رأسها .
- أعلم أنك حائرة في كوني صادقاً من عدمه .
- لو قلت لي اسمك فلربما ...
- هل يهمك الاسم ؟ لا اظنه كذلك ، عموماً اسمي هو مؤيد أحمد ..
حاولت أن تتذكر الاسم فقد مر على مسامعها من قبل ولكنها فشلت في ذلك .
- ربما تتعجبين من طريقة دخولي إليك ، لدي القدرة على التحكم بالأشخاص ذهنياً ولذلك فالسجان الواقف على الباب لن يتذكر شيئاً بعد خروجنا من هنا .
- خروجنا ؟
- ماذا هل كنتٍ تتوقعين قدومي إليك هنا لبعض الرفسات في الخاصرة ؟
- وأين هي سما ؟
قالتها بنوع من الريب . ابتسم مؤيد أحمد متأملاً السقف
- مشغولة بملاحقة أبو حسام .
حاولت اشتباه أن تفهم العلاقة ما بين سما وأبو حسام الحليفين وكيف تحولت إلى مطاردة ولكن ذلك لا يهم الآن
- هل سنظل مربوطتين حتى تأتي الست الست سما ؟
انتبه لنفسه وسارع في فك الوثاق بواسطة سكين حتى تحررتا السجينتان ، وعلى الفور قامت اشتباه بإيقاظ آلاء النائمة والتي حاولت أن تستوعب ما يجري ولكن المقاتلة الأمازونية حثتها على النهوض فأردف مؤيد أحمد
- لا وقت لدينا فقواي تكاد أن تكون شبع معدومة مع سما .
خرج الثلاثة من الزنزانة الصغيرة بينما الحارس مازال مذهولاً .\
كان الفوج يسير بحذر شديد عبر مرتفعات صغيرة يتقدمهم زعيم العصابة عقيل خميس وفي نهايتهم كان Alooosh للقبض على أي شخص يفكر في الهرب ، كان بحراوي يجري حساباته بسرعة مذهلة فما رآه في الآيام الفائتة مذهلاً بشكل لا يصدق فمن جزيرة الإمبراطور وحتى منجم الفحم وهروبه مع صديقيه بطريقة كانت أشبه بالأعجوبة وأخيراً القبض عليه مع نسيم صديقه الوحيد في هذه المحنة من قبل عصابة غريبة لهم قوى لا تصدق إلا في الأفلام الأمريكية ، إذن عملية الهروب من هذه العصابة شبه مستحيل ولكن السؤال الذي لم يجد له إجابة : ماذا يريدون منهم ؟ هل هو المال مثلاً ؟ أم هناك شيئاً أخر ؟
توقف الجميع عند أطراف غابة كثيفة الشجر ، أخرج عقيل خميس بوقه ونفخ فيه فأصدر صوتاً أشبه بالهدير ، أعقبه صوت هدير أخر أتي من عمق الغابة ، أشار عقيل للجميع بالمضي قدماً ، هناك كانت عشرات العيون من خلف الأشجار الكثيفة تراقب قدوم الأسيرين الجديدين .
كانت المياه تغمر كل الجسد المغطى بالجبس الثقيل ، للحظات شعر أبو حسام أن نهايته اقتربت بل حلت ولم يتبقى له إلا أن يفكر كيف ستكون جنازته ، ربما في لحظة شعر بالرضا أن تكون نهايته غريقاً في المياه الجارية على أن يقع في يد سما المتجبرة ، لن ترحمه إن وقع بين يديها ، ستمارس عليه جميع أنواع العذاب والهوان ولن يشفي ذلك غليلها . كيف أصبحت أخصائية علم النفس الوديعة إلى إمرأة بهذه الشراسة والجبروت ؟ هو يعرف الجواب ولو كانت المياه تسمح له بحرية الحركة لنكس رأسه خجلاً مما اقترف .
أصوات الكلاب تُسمع عن بعد فلابد أن الحراس الآن مازالوا يبحثون عنه وبالطبع لن يصيبهم اليأس أبداً حتى يتم العثور عليه سواء حياً أم ميتاً وإلا حلت نهايتهم . ألم يكن بإمكان ميلاد أن يفلته بطريقة اسهل ؟ ميلاد قصة أخرى فمع علمه بحب هذا الرجل السمين لإبنته إلا أنه كان يتحاشى التطرق لهذا الأمر فزيجة طبيب الإمبراطور السابق من إبنته يعني أنه بكل بساطة زواج سياسي يتوسع فيها نفوذ الطبيب ، ومن سخرية الأمر أن من اقتلعه عن الحكم هو أيضاً طبيب السلطان الجديد زهدي .
رفع رأسه بصعوبة فوق سطح الماء وزفر الهواء المحبوس بداخله ، رئتيه أصبحتا ضعيفتين بسبب ضغط الجبس على قفصه الصدري ، أخذ كمية سريعة من الهواء وعاد يحاول أن يحرر يديه لعل وعسى أن يستطيع ان يجدف بهما إلى ضفة بعيدة عن هنا . فشلت كل محاولاته في التخلص من الجبس الذي وضع بعناية فائقة .
في الظلام لمح شبح عن بعد يحمل فانوساً ، لم يشك للحظة أنه أحد الحراس وقد وجده أخيراً هي لحظات قليلة ويمتلئ المكان بالجنود تصحبهم كلابهم الشرسة ، عاد من جديد للنظر في الجهة التي خيل إليه أنه رأى الشبح فيها ولكن لم يكن هناك أحد ، إذن هو الموت ولربما كان ذلك هو الملاك المختص بقبض الأنفس . هاهو أخيراً يؤمن بالحياة الأخرى ، فكل ما عمله من بطش وجبروت ينفيان أنه كان ينتظر يوماً يحاسب فيه على سوء عمله .
عاد ضوء الفانوس يسطع من جديد بالقرب من ضفة النهر ، الشبح غير واضح المعالم ولكن من خلال جريه السريع بدأ هزيلاً بعض الشيء وهذا لا يناسب ما عرفه من ضخامة جثث الجنود . ظهر بصيص أمل فلربما كان ذلك أحد المتشردين أو أي كان ، حاول رفع إحدى يديه ليشير إليه ولكنه عجز عن ذلك . رجله الوحيدة المحررة قد كلت من كثرة الحركة ليبقى على قيد الحياة ، شعر في لحظة أنه بدا ينهار .
الشبح وهو يجري يجاري حركة الماء في سرعته ، كان ابو حسام بين الذهول والأمل ولكن ما يصيبه بالإحباط هو السرعة العالية لجريان الماء ، أتته لمحة خاطفة فوجد بعض صخرة صلبة تقف على بعد أمتار من جهة اليمين ، بالسرعة الحالية ومن حيث هو فإن احتمالية ان يصطدم بها تعتبر كنسبة ضئيلة للغاية ولكن وكما يقولون ( الغريق يتعلق بالقشة ) أخذت رجله المتحررة بالدفع بشكل هستيري لعل وعسى أن يرتطم بالصخرة فتوقف انجرافه السريع وبالفعل تحقق له ما يريد ، اشاح بوجهه كي لا يرتطم بالصخرة الحادة ، المشكلة لاتكمن في ارتطامه الآن وإنما هل سينزلق عنها ؟ قوة الماء تدفعه بقوة ولكن اسنانه تشبثت بالطحالب النابتة ، للحظة شعر أنه سيُجرف غصباً ولكن وحالما لمح الشبح الهزيل يقف فوق الصخرة ماداً يديه لينتشله بكل خفة هو ما جعله يقر أن الأمور ستتجه إلى الأحسن . بادره الشبح الهزيل الذي بدأت ملامحه تتضح عن وجه مشعر ولحية كثيفة :
- أعلم أنه ليس هذا وقت التعارف ولكني أحب أن أعرفك بنفسي : اسمي عبدالله آل دعبل وتستطيع أن تناديني بدعبولا .
للحظة وقبل أن يصل السيف إلى عنق Dr.Fatimah سقطت الخيمة وما عليها ففزع حسن علي وأخذ يتخبط يمنة وشمالاً فما كان من الشحاذة المسكينة إلا أن أخذت طريقها لأقرب فتحة من الخيمة لتطل برأسها لتجد صديقيتيها zamob و amsalolo في انتظارها ، مدت النحيفة يدها إلى صديقتها لتقتلعها من مكانها ولذن الثلاثة بالفرار لا يلوين على شيء .
- شعرت بتأخرك فعلمت أن هنام مصاب جلل أصابك .
قالتها amsalolo وهي تضحك ، بينما كانت المشوهة zamob تحاول أن تبتسم ولكن عضلات الوجه خانتها كالعادة ، أردفت amsalolo :
- هل كان ذلك هو الضابط الفاشل ؟
- حسن علي ؟ ومن غيره ؟ ولكني سأرد له الثأر ذات يوم .
توقفت الصديقات الثلاث على بعد مسافة شعرن أنها آمنة وأخذن يلتقطن الأنفاس ، نظرن إلى بعضهن البعض فسقطن ضحكاً على الأرض ، اعتدلتzamob :
- هذا يعني لا عشاء ولا غذاء لهذا اليوم .
ضحكت الشحاذة ذات العين الصناعية :
- لماذا يسمونني إذن Dr.Fatimah ؟
قالتها وأخرجت من تحت ثيابها قطعة لحم كبيرة مشوية .
شهقت زميلتاه بفرح وأخذت الصديقات يرقصن طرباً بالغنيمة الجديدة .
أما ما كان من حسن علي وبعد أن رفع الجنود عنه الخيمة الثقيلة قام من فوره وأخذ يبحث بجنون عن نعاله الزنوبا وردي اللون وما أن وجده حتى أخذ يقبله ويشمه ويضمه ويمسح عليه بكل حنان وما إن اطمأن على وجوده بين أحضانه حتى التفت جهة مساعده ماضي الذي اصفر وجهه ومن ثم غمق وتلون :
- كيف سمحت لها بالدخول ؟
لم يحر المساعد المسكين جواباً ، فما كان من الضابط الشاب إلا أن زمجر في جنوده وصرخ بأعلى صوته :
- أتوني بها حية أو ميتة وإلا صلبتكم أحياء .
هم الجنود بالتحرك ولكن ماضي أوقفهم :
- سيدي المبجل ، وصاحب الرأي الأمثل ، والحكمة من عينيه تتدلدل ، لو ذهب الجنود بحثاً عنها فسنكون معرضين للوحوش المفترسة .
بلع حسن علي ريقه بصعوبة عندما تخيل ذلك المسخ المخاطي الذي التقاه بالقرب من جزيرة المنبوذين فأمر جنوده بالإنصراف .
- إن كانت Dr.Fatimah تظن أنها فلتت فهي مخطئة ، أنا وراءك والزمن طويل أيتها السمينة .
يتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق