السبت، 31 يوليو 2010

أشرعة القيظ 2





هي لحظة لا أكثر ، تمدنا بالطاقة الدافقة أو تسلبها منا فنصبح عاجزين ، مترهلين من الداخل وكأن عظام الروح أصبحت رخوة .
عظام الروح !!!
كان المكان خالياً لا يشبه أبداً يوم أمس ، حزيناً بعض الشيء ، الشجر بدا وكأنه قد فقد كل ما يملك فأصبح عارياً ، يشبه روحي لحظتها .
تعثرت في خطواتي الرتيبة كلما عثرت عيناي على إحداهن ظناً أنها قد تكون هي ، البحث مازال مستمراً ومساندة مهند تدعمني لوجستياً ولكن بدون فائدة ، اليأس أخذ طريقه في قلبي رغم كل المحاولات لانعاشه ، تصفيته و تنقيته من الشوائب الغريبة .
مر الظهر لا يهم إن كان سريعاً أم بطيئاً ، لا فرق عندي لحظتها ولكنه مر ، جلست في المقهى الجامعي يائساً بعد تعب ، وقبل أن ارتشف كوب القهوة وكأني لمحتها ، انتفضت يدي حتى كاد الكوب أن يقع ارتشفته على عجل بدون أن أتحسس حرارته وكأني استخسر ما دفعته وجريت خلف الطيف تلاحقني نظرات الجميع.
إحساسي الداخلي يخبرني بسراب الفكرة ، بخطأ في الاتصال ولكن المتعلق بـ ( القشاية ) يجعله يمطر السماء شهباً إن أمكن ، تسارعت خطواتي ناحية طيفي ذو الشعر القصير وبسرعة خاطفة سبقتها مع لمحة جانبية من طرفي الأيمن ، جانبية مخيبة فلم تكن هي .

- ولو كانت هي ، شو كنت بتعمل ؟
- بصراحة ما ادري ، يمكن ابتسم ببلاهة كالعادة واقول وين شفتك ؟
- عندك الجرأة ؟
- هم ما ادري . بس اظن ... لا ما اظن ... ما ادري


متى تصبح الأيام متشابهة ؟ هل بتشابه الأحداث ؟ أظن أن الفراغ أصبح قاتماً رغم ما يحفل برنامج الرحلة من زخم كبير .
فهد يبشرني بأن مسئولي الجامعتين يبحثان أمكانية عرض مسرحيتي في مسرح الجامعة الذي يقبع تحت الصيانة . لا اعلم لماذا لم استقبله بفرح غامر مثلما هي كل مرة ، لهذا السبب أنا هنا ، لكي اعرض المسرحية .
- صحيح ؟ وين مهند
- في قاعة الفنون التشكيلية . بنروح رحلة في النهر
- اقدر اعتذر ؟
- اكيد بيرفضوا . وثاني شي وين بتروح
- بأنام
- البارحة نايم نومة اهل الكهف ، على فكرة شوف لك حل مع الشخير ماعرفت أنام منك ، تعال وفرفش

اعترف بجمال الرحلة ، اظن أن حكايتي مع الحظ هي وهمية أنا من اقنع نفسي بالعجز والكأبة وقلة الحيلة وسوء الحظ وكل الصفات السيئة والرديئة .
نحن من نجعل من أنفسنا ضحايا من لا شيء ، من وهم نصنعه أحياناً لأنفسنا ، ربما هي حالة من الكبت العاطفي أن اعشقها من خلال نظرة واحدة ، وكأنني صدقت حكاية الحب من النظرة الأولى كما هو في عالم الأفلام .
مددت يدي لتنساب على صفحة ماء النيل البارد ، ارتعشت ، وابتسمت وفي النهاية حملت بكفي قليلاً منه ورشقت مهند به عقاباً ما صنعه بي .
توالت الضحكات حتى اهتز القارب من فعل طيشنا وربانه يترجانا أن نهدأ قليلاً ولكن لافائدة ، فحالما تهدأ حركتنا في جهة ننحني كلنا في اتجاه فوج سياحي ياباني بتحيتهم حتى يميل القارب الصغير .

حالما ارسى القارب كنت اخر النازلين ، نظرت بغرابة جهة فهد الذي تجمع حوله شباب وشابات وكأنهم يعرفونه ، لم التفت إليهم وإن كان الفضول يتملكني حينها . تمنيت في أعماق قلبي أن يناديني وبالفعل حدث ما تمنيته ، وبسرعة متناهية كنت اقترب منهم إلا أن تبعثرت من جديد عندما لمحتها بينهم .
نظراتها هي ذاتها تحرقني كما العدسات الحارقة ، ارتجفت أوصالي فبدوت كموجة برد أصابتني حينها .
قدمني فهد إليهم
- مخرج وممثل ومؤلف .
خرج صوتها كموسيقى :
- كنت افتكرك فنان تشكيلي
شعرت بالغصة ، وكأنها تغمز من قناة الفتيات المسترجلات ، فابتسمت ابتسامة باهتة :
- تقدري تحطيها في قائمة سبع صنايع والبخت ضايع
ضحكت كضحكة فجر انبلج من ليل طويل ، كل ماحولها لم يكن موجوداً بما فيهم فهد ، لم يكن إلاها ، كانت احاديثهم متحلقة حولي وحول مسرحية الضوء الأسود ولكن ضحكتها شغلتني كثيراً
- امتى حتعرضوا المسرحية ؟
- حتحضري ؟
- إن شاء الله

أشرعة القيظ - १





جميع اللعنات والتبات انتابتني في تلك اللحظات وأنا أراها تغادر

فتباً لعينيها التي أسرتني وتباً لغبائي وحبي لاستعراض عضلاتي أمام جموع الفتيات

وتباً لك يا مهند لأنك من أوحى لي بالفكرة وتباً مرة أخرى لك عندما نبهتني متأخراً لمغادرتها ولم تتذكر من هي .

كانت الساعة التاسعة صباحاً عندما دخلنا ساحة جامعة عين شمس وفوراً ذهبنا إلى القاعة التي خصصت لنا لكي نعرض لوحاتنا لطلبة الجامعة ، لم أكن من ضمن التشكيليين ولكن كان واجباً علي أن أمد يد المساعدة لهم بعد أن تأكدنا أن لا وجود لعرض مسرحي لنا في الجامعة .
كنا حوالي ثلاثين طالباً من الجامعة بمختلف الهوايات ومختلف الجنسيات فالمسرح والتشكيل والموسيقى في طليعة الأنشطة الثقافية .نظر مهند تجاهي وهو يتأمل الساحات الخالية من الطلبة فقدومنا كان في وقت خاطئ نوعاً ما فنحن في فترة الأختبارات وهذا يعني مشغولية الطلبة والطالبات عنا في ما هو أهم ، ولكن ذلك لا يعني خلو المكان تماماً ، فقررنا أن نبداً تعارفنا بطريقة طفولية :
- صباح الخير
- صباح النور
- ممكن سؤال ؟
- تفضل
- فين مبنى القبول والتسجيل ؟
- ايه ؟ ايه يعني القبول والتسجيل ؟
مالم نكن نعلمه أنا ومهند أنه لايوجد في الجامعات المصرية مثل هذا المسمى فالطالب الذي يتخرج من الثانوية يقدم اوراقه للتعليم العالي ( إن صحت التسمية ) ويكتب خياراته سواء التخصص أو الجامعة المطلوبة وعلى أساس المعدل والقرب يتم تحويله للجامعة المطلوبة .
- يعني المكان اللي عاوزين الجامعة تقبلنا فيه .
هنا تختلف الإجابات من شخص لأخر ولكن النتيجة واحدة .
- عموماً احنا طلاب من جامعة قطر وعندنا معرض فنون تشكيلية سوف يتم افتتاحه في الغد ليتكم تشرفونا .
وهكذا كان الموال في كل مرة وكان اختيارتنا انتقائية حيث أكبر تجمع للفتيات نذهب إليه .

حتى لحظة أن صادفتني مع زميلتها ، شعرها الكستنائي القصير ووجهها الدائري الطفولي الملامح مع أحمر شفاه وردي اللون وتنورة بنفسجية وبلوفر شتوي رقيق ، لم أستطع أن اشيح نظري عنها وكانت هي كذلك ترافقها إبتسامة رقيقة وهي تحاول أن تلملم من هنا وهناك اسئلتي المبعثرة لتفهم ما يجري
- معرضنا بكره ، انتظر جيتك ...
- إن شاء الله
- وعد ؟
- وعد

في اليوم التالي وكعادتنا أنا ومهند أخذنا جولتنا بسؤالنا الغبي لنتعرف على اكبر عدد ممكن إلى أن صادفنا فتيات ( مسترجلات من شبرا ) اللاتي وكأنهن لم يصدقن أن احتك بهن رجل حتى تشبثن فيه ، أما أنا وبما أن الاسم الذي أمامي فتاة فهذا يعني الاستظراف وخفة الدم وكل حيل الممثل ليستحوذ على الانتباه .
وقمت بدور المرشد السياحي في المعرض التشكيلي .
- هذه اللوحة تتبع الرسم المكعبي ، شوفوا المكعبات في كل مكان
وهكذا أخذت دوري في استعراض معلوماتي مستغلاً جهلهن وقد نسيت كل من حولي بما فيهم مهند الذي كان يقوم بالتصوير الفوتغرافي هنا وهناك .
بينما كنت منهمكاً مع نيفين ( الفتاة الرقيقة والوحيدة بين المسترجلات ) في شرح لوحة ما جاءني مهند على عجل وهو يخاطبني بلهجته السورية :
- ... فيه بنت مازكرها .. بس كأنا شفناها ابل هيك
- وين ؟
- كأنها مشيت
كان الأمر عادياً فكم فتاة عزمناها على المعرض رغم التفاتاتي قبل دخول نيفين وشلتها إلى حيز الادراك لدي بحثاً عن صاحبة الابتسامة الرقيقة والتي ظننت أنها لن تأتي وإلا كان قلبي سيحدثني بلاشك .

انتهى اليوم الأول على خير وقمنا بفعاليتنا المختلفة إلى أن جاء الليل وقد تواعدت مع بعض الأصدقاء لكي نستطلع عن كثب قصر البارون الغامض

لا اعلم أين ذهبوا ولا اذكر ما الذي دعاني أن افتح الكاميرا لاشاهد الافتتاح ومجريات المعرض .
كنت شامخاً ببذلتي الرمادية وربطة العنق الكحلية وحولي الفتيات المسترجلات عدا نيفين الرقيقة وأنا اشرح لهن اللوحة تلو اللوحة بدون كلل أو ملل أو ارتباك حتى حانت اللحظة القاتلة عندما استدارات الكاميرا في الجهة الأخرى وكانت هي .
كانت تتطلع في جهتي علني التفت تجاهها ، وقفت برهة غير قصيرة وهي تتطلع تجاهي بينما كنت منهمكاً في غبائي ، ابتسمت ابتسامة رقيقة وإن كان بها نوعاً من الحرج وغادرت .
صرخت بأعلى صوتي :
- اللعنة علي ......

الجمعة، 30 يوليو 2010

أشرعة القيظ - السيجارة الأخيرة



أتساءل أحياناً لماذا يغلفنا الحزن ويسكننا ؟ ومن يسكن من ؟ فلو تأملتي ما حولك فستجدينه في كل شيء
حتى كأس الماء الذي نشربه مظهر للحزن ، لباسنا ، مشينا ، وحتى أفراحنا يكتنفها حزن ما ، لدرجة أننا أدمناه ولا نتصور حياتنا بعيدة عنه
طقوسه مختلفة تبعاً لحالة القدسية التي هو فيها ، فمن أقمشة سوداء تغلف الأمكنة إلى سيجارة L&M أنفث دخانها في هواء دارين مطلقاً لموجة من الذكريات تموج هنا وهناك ، اضحك بمرارة على جملة فهد الشهيرة
" دخان يبعد البلغم "

فهد !! كيف غاب عن ذاكرتي ونظارته العريضة التي تغطي معظم مساحة وجهه الضئيل ، هل تذكرين فهد ؟ أظنه غاب عن ذاكرتك أيضاً . فمثلما ظهر في حياتنا كان قد اختفى لم يكن ليترك أثراً خلفه ، أظنه كان حريصاً على ذلك ، لقاء سريع وكأن لديه مهمة واحدة أن يعرفنا على بعض ليختفي بعدها . اختفى يحمل خلفه بقايا حزن ما لم افهمه ، وكأنه عندما غادر المكان المليء بثرثرتنا الصامتة رمى خلفه عقب السيجارة الأخيرة