الجمعة، 17 يونيو 2011

جزر الغموض - 19 - الحلقة الأخيرة من الجزء الأول




















( 19 )

هذه الحلقة إهداء للفنانين الجميلين عقيل الخميس وعلي غالب بمناسبة عرض مسرحية عندما يتمرد في مسابقة المسرح بجمعية الثقافة والفنون فرع الأحساء ( وقد فازت بخمس جوائز في 2009 )

الوجوه الجديدة
مؤيد أحمد
عقيل الخميس
Alooosh










كانت الكلاب السوداء والضخمة تجري بسرعة مهولة في أثر أبو حسام الذي يعاني من ثقل كبير في رجله اليمنى بسبب الجبس والذي يمنعه من تحريكها أيضاً فاعتمد اعتماداً كلياً على رجله اليسرى فأخذ يقفز ويتدحرج ما أمكن قبل أن تصله الكلاب الذي اقترب منه صوتها فعلم أن نهايته قد اقتربت فلعن ميلاد الذي وفى بكلامه فعلاً عندما أخبره بعزمه على الصراخ إن لم يهرب خلال دقيقة واحدة . في البداية ظنه تخويفاً فقط ولعباً بالأعصاب ولكن خلال الثواني العشر الأولى رأى في نظرته ذلك التهديد الحقيقي لحياته فقام مسرعاً يحاول تسلق الحبل ما أمكن بيده الواحدة ، لحظتها استعان بأسنانه لمساعدته على بلوغ السطح ولكن مهما كانت قوته فدقيقة واحدة لا تكفي ، نظر إلى أعلى فلربما يشفق ميلاد عليه عندما يتذكر العشرة التي كانت بينهما رغم سوءها أو يتذكر أنه أصبح والد زوجته فيحن عليه ويغير رأيه ولكن ميلاد اختفى ، ثوان عشر أخرى وصراخ وعويل وعواء وجلبة تضج في المكان وكأنها معجزة أو إرادة خارقة لا نسمع عنها إلا في الأساطير دبت القوة في جسد الإمبراطور السابق وبسرعة متناهية كان على سطح الحفرة يجري برجل واحدة .

استشاطت سما غيظاً وقهراً عندما علمت بهرب أبو حسام فـأخذت تزمجر رعداً وزبداً فأمرت الحراس الذين توعدتهم فيما بعد بإطلاق كلابها السوداء المسعورة والتي تمزق من يقف أمامها عداها .

انطلقت الكلاب مسرعة ناحية أبو حسام المنهك وقد بلغ التعب منه كل مبلغ ، أخذ يحاول تذكر المكان فهو منذ زمن طويل لم يأتي لمنجم الفحم كانت أخر زيارة له منذ ثلاثة سنوات عندما جاء ليدشن افتتاح منجم صغير تم اكتشافه بالقرب من المنجم الرئيسي .

كان صوت الكلاب يقترب أكثر من قبل والهارب يحاول الالتفات خلف الشجرة إلا أن الكلاب حاصرته من جميع الجهات ، كانت نظراته تحمل في طياتها رعباً لا يمكن وصفه ، نظر الجندي ناحيته بشماتة لم يحاول إخفائها :
- هل تفكر بالهرب من هنا ... ألا تعلم لا يوجد هذا المصطلح هنا ؟
نكس رأسه واستسلم للجنود .

نظرت سما إلى أبو حسام الذي كان يشرب عصيراً من التوت البري :
- لن يهرب طويلاً يا عزيزي .
- إن هرب .. جعلتك مكانه يا سما .. لا أحد يفكر باغتيال أبو حسام وينجو بفعلته
بلعت سما ريقها بصعوبة وتاهت نظراتها وابتسمت ابتسامة باهتة وإن طغى المكياج عليها وأخفى معالم الشحوب :
- وهل هذا معقول ؟ يا عزيزي ... حياتك من حياتي .
نظر إليها أبو حسام ببرود شديد :
- لا تناديني بعزيزي بعد اليوم .... خاصة في الأماكن العامة
- هذا يعني أنني لن أناديك طوال عمري .. هل نسيت أنك نفيتني إلى هذا المكان البعيد والمنعزل .
- المصلحة العامة هي التي أجبرتني على اتخاذ مثل هذا القرار ... الثوار زادوا من هجماتهم على المنجم ونحتاج لشخص مثلك فقد أثبت رئيسها السابق فشله الذريع .. بمناسبة ذكره أين هو ؟
- مؤيد أحمد ؟
- أجل هل قبضتم عليه .... هذا القاتل .
- إنه هنا .... للتو تم القبض عليه .
- أدخلوه
دخل مؤيد أحمد مكبلاً بالسلاسل والأغلال مترنحاً بكثرة الأثقال ، ضحك أبو حسام عند رؤيته لمؤيد :
- معقولة تعض اليد التي امتدت لانتشالك مما كنت فيه ... تغتالني يا مؤيد
كان الصمت مطبقاً ، زاد غضب أبو حسام :
- قلت لك تكلم .
نظر إليه مؤيد أحمد وقد بانت عليه السكينة :
- ما ستفعله بعمال المنجم جريمة ... أنت تعلم ماذا ينتظرهم هناك .. نلك المواد قاتلة ، لم يكن بيدي حل أخر .
- إلا بقتلي ؟
سكت مؤيد أحمد مجدداً وأشاح بوجهه إلى الزاوية الأخرى من الغرفة فما كان من أبو حسام إلا أن لطمه لطمة قوية أوقعته أرضاً .
- ستعلم عواقب فعلتك عندما ترى ما سأفعله بك وبعائلتك
نظر ناحية سما :
- أين هما ؟
- زوجته وابنته الرقيقة ؟ لم نقبض عليهم بعد .
- أين كان يهرب هذا المجرم .
- بالقرب من الغابة
فكر ابو حسام قليلاً ثم ابتسم ابتسامة وحشية :
- إذن ستجدوهما عند النهر
اطلق مؤيد أحمد صرخة رعب

النهر ، أجل النهر ، إنه بالقرب من هنا ، كل ما عليه أن يشحذ همته ويصل إلى هناك ، المياه الجارية ستجرفه بعيداً ولن تستطيع كلاب سما أن تصل إليه إلا بعد فوات الأوان ، ولكن عليه أن يتخلص من هذه الجبيرة أثناء العوم أقلاً وإلا سيغرق بلا شك . كل ما يفكر به هو النهر ، صوت الكلاب يقترب منه أكثر ....... أكثر


- اقتلني مع والدتها ... لكن اطلق سراحها ... إنها صغيرة .. بريئة ، لاذنب لها إلا أني والدها فقط
كانت كلماته مليئة بالمرارة واليأس ، ضحك أبو حسام
- هل تعلم يا مؤيد ، كنت أنت يوماً ما ، الآن كلك لي أنا ، فلذا لا يحق لك أي كلمة .... ما هو اسم صغيرتك ؟
تلعثم مؤيد أحمد :
- Renad .
- Renad !!!! جميل هذا الاسم .
نظر ناحية سما بكل برود
- اقتليهم ... الثلاثة .. أولهم رنودة الصغيرة أمام والديها .
ابتسمت سما ابتسامة وحشية :
- هل تأذن لي يا مولاي ؟ .. لدي فكرة أفضل من ذلك ... سيجعل هذا الخائن يتمنى أنه لم يولد بعد .

مر سهم بجواره فارتبك على أثرها واصطدم أخر بالجبيرة في منطقة الكتف فشكر زهدي في قرارة نفسه بعدما ارتد السهم عنه ، الكلاب أكثر قرباً والنهر يلوح في الأفق ، بدون أن ينظر بدأ كل شيء يتجه إلى الدوران ، سقطته كانت مريعة ، بدأت أصوات الكلاب تخفت تدريجياً ، برودة أقرب للصقيع .... ظلام


تقدم جيش الثوار متجهاً ناحية الجزيرة بعد نجاح مهمتهم والحصول على الجزء المصهور من الطائرة الساقطة في جزيرة المنبوذين ، عند التل القريب من الشاطئ أمر حسن علي رجاله بالمكوث ليلتهم هنا بعد عناء حمل كتلة الحديد الضخمة ، نُصبت الخيام العسكرية وأُوقدت نيران المعسكر استعداداً لحلول الظلام وتحسباً من بعض الحيوانات المتوحشة ، مغط حسن علي رجليه ومن ثم يديه وأشار لمساعده ماضي بالمضي في تدليكه فمد رجليه وانشكح وعلى بطنه تمدد وانبطح ، تحركت أصابع ماضي برشاقة فوق ظهر حسن علي الذي وضع نعاله الزنوبا وردي اللون بالقرب من أنفه فأخذ يستنشقه حتى غاب في عالم أخر . وكأنها لحظة بارقة أفاق على صوت نسائي رقيق الملامح فعلم أنه ما زال في سكرته الأولى فقبل نعاله وعدل من بنطاله وأشار لماضي بالاستمرار في التدليك المريح للأعصاب .
عاد الصوت النسائي من جديد وإن خلت نبرته من النعومة التي سمعها أول مرة :
- حسن علي ، يا قائد الثوار المبجلين وقمر الأولين والآخرين ، وعتاداً وذخراً للثائرين ، أستيقظ من نومك فقد أطلت .
فتح حسن علي عيونه الناعسة فصدم عندما وجد Dr.Fatimah أمامه فهلع واختلع وعلى ركبتيه سقط ووقع وبدا وكأنه للسمينة قد ركع .
- Dr.Fatimah ، ماذا تفعلين هنا .
ضحكت الشحاذة المشهورة ضحكتها المجلجلة حتى يخيل لمن يسمعها كأنها إعصار قادم من جوف الأرض .
- رأيت الجيش بالقرب من هنا ... فقلت لابد أن حسونه معهم ... اين ديني ؟
أخذ يبحث عن مساعده الجبان ماضي الذي أختفى فجأة بدون سابق إنذار :
- دينك !!! ؟ ...
نظرت إليه نظرة ذات مغزى ، فابتسم حسن علي ابتسامة باهتة صفراء فاقع لونها :
- أه قصدك عندما علمتني حيلة في لعبة البلوت مقابل أن أعطيك بقايا اللحم من مخلفات عشاء الجنود ...
- انتظرتك طيلة الليل .
- تعرفين المشاغل ...
- المشاغل ... أم ... ؟
- سأعوضك حالما نرجع .
- ولم الانتظار ؟ معي جماعة .. ليستا جماعة هما اثنتان فقط .. نريد أن نتعشى ..
- ولكن الطعام لا يكفي .
- لانريد الكثير
قالتها بإصرار وقد شعرت بتردده ، كانت في لحظة ما ستقول له على كيفك وتنصرف للبحث عن مأوى أخر ولكن دخول ماضي في تلك اللحظة جعل الموازين تنقلب فبلع حسن علي ريقه وجمعه ومزج معه بقايا من السائل الأخضر وأطلقه قذيفة في وجه الشحاذة المسكينة ولكنها وببراعة تحسد عليها استطاعت إمالة وجهها جهة اليمين فاتجهت القذيفة لماضي الذي بوغت بالمشهد فسقط على وجهه فنجا بسقطته من القذيفة الملغمة التي سقطت على وجه طائر بحري قد هبط ليصطاد سمكة فاصطدمت البصقة في عينه اليمنى فأفلت السمكة رغم محاولاته الإمساك بها فسقطت السمكة في مقلاة طباخ المعسكر .
- إصابة مباشرة
قالها متبجحاً أمام ماضي وتجاهل نظرات Dr.Fatimah المصعوقة وقد شعرت بالاهانة الشديدة
- أنا المخطئة عندما علمتك حيلة البلوت لتغش فيها وتتغلب على هذا المسكين ورفاقه .
تغير وجه حسن علي عندما نظر إليه ماضي الذي تذكر لعبة القمار الأخيرة والتي استطاع فيها أن يفلس كل من معه وجعلهم مدينين له لمدة ثلاثة رواتب على أقل تقدير ، لحظتها علمت أنها في موقف القوة فتمادت قليلاً وأمسكت نعاله الزنوبا وردي اللون وصفقته بقوة :
- وهذا النعال
- لا أرجوك
قالها بحرقة وخوف ولوعة ويأس وكل مصائب الأرض التي على رأسه :
- إلا نعالي الزنوبا .. أرجوك .. لك ما تريدين .. عشاء فخم ..
ركع على ركبتيه مستجدياً إياها :
- لا لن ينفع ... سوف أمزقه .
هذا هو الخطأ الوحيد الذي اخطأته Dr.Fatimah فلربما لو أنها توقفت عند هذا الحد لكانت حصلت على الوجبة ، فقد أحمر وجه حسن علي لدرجة الثوران مما جعل ماضي يولي هارباً لا يلوي على شيء وقد علم أن الشر المستطير سيحل في خيمة القائد ، تراجعت الشحاذة المسكينة كريمة العين خطوات للخلف تستعد للهرب والاستنجاد بصديقتيها ولكن حسن علي الذي استل سيفه قد سبقها .


جلس الجميع على المقاعد الوثيرة في القاعة المغلقة للجلسة الابتدائية للمؤتمر الجزري والذي يترأسه يوسف آل ابريه حاكم جزيرة الحشاشين ، بعد أن هدأ الجميع وخفتت الأصوات أطرق الحاكم المبجل مطرقته على الطاولة إيذاناً منه بالبدء في أعمال المؤتمر :
- بدأت الجلسة
قبل أن يشرع في كلامه تناهى لسماعه وسماع الجميع جلبة في خارج القاعة ، التفت الأعناق بفضول في معرفة ما يجري ، لحظات وفاضل الجابر ومن معه يدخلون القاعة الفسيحة تلاحقهم أصوات الاستهجان والاستنكار :
- وإن كنتم نسيتم دعوتنا إلا أننا نأبى أن نتخلف عن هذا المؤتمر .
زاغت عينا الحاكم بعدما خمن هوية القادم .
- فاضل الجابر نائب ملكة جزيرة المنبوذين ، جئنا نشارككم همومكم وأفكاركم في طرق السبل لرفاهية شعوبنا .
- لكنكم غير مدعوين .
صرخت أزهار بريه بحدة ولكن فاضل الجابر تجاهلها .
- منذ اليوم عليكم أن تعلموا أننا جزءاً لا يتجزأ من هذه المنظومة الجزرية ، يكفينا أننا نستقبل أعطابكم والعاجزين بدون مقابل ولكن أن تقرروا مصيرنا بدون الاستشارة .. فلن نقبل
ضحك سنابسي الهوى ضحكة مبحوحة :
- ماذا ستفعلون ؟
- لا أظنك أيها العجوز ترغب في معرفة ما يمكن أن نعمل
قالها وأخرج يده من كمه وظهرت الديدان الحلقية والطويلة والصغيرة وهي تقفز فوق جلده كأنها براغيث ، تراجع الجميع في خوف ظاهر :
- أعدكم أنها لن تكون معدية في حال التزامكم بأدب الحوار
حنقت ملكة الأمازونيات وأشارت لحارساتها بالاستعداد لرمي المنبوذين بالسهام ، ابتسم فاضل الجابر :
- أولاً هذا ضد سياسة الجزيرة وعليك يا أزهار .. أسف أيتها الملكة المبجلة أن تحترمي قوانين الجزيرة وثانياً لو فعلت ذلك فلا شك أن العدوى ستنتشر في كل مكان .
ما أن قال عدوى حتى ضج المكان واستعد الجميع للهرب :
- لن يخرج أحد .
كان مالك القلاف الذي يجلس بجوار ملكة الثوار نبع يتطلع بدهشة وريب تجاه نائب ملكة المنبوذين ، ملامحه ليست بغريبة عنه فرغم ذبول الوجه وشحوبه واصفراره والدود الذي يخرج من بين مقلتيه وجفونه إلا أن هناك ما جعله يظن أنه يعرف صاحبه ، همس في أذن ملكته التي أومأت إيجاباً وموافقة فقام من مكانه وانصرف .
سحب فاضل الجابر كرسي بجواره وجلس وأمر حاشيته بالحذو مثله :
- على فكرة يا ملكة الأمازونيات ، ذلك الضخم الذي خطفتموه ليلة البارحة ، هل هو أحمد علي ؟
وكأن صاعقة نزلت على الجميع لا سيما ملكة الأمازونيات التي شعرت بالتعري وسنابسي الهوى الذي شعر بغياب أحمد علي لحظتها وكأنه سكير قد أفاق من سكرته و يوسف آل ابريه الذي شعر بالخديعة .

وعلى ذكر أحمد علي الذي أفاق من غشوته ووجد نفسه مع سماهر في مواجهة متوحشة مع الوشق الجائع يحيط بهما جموع المقاتلات الأمازونيات اللاتي بدأن بضرب الرماح والسيوف بإيقاع منتظم وحماسي على سطح الأرض التي ارتجت واهتزت . وضع أحمد علي يده على رأسه يتحسسه فقد كان الألم فظيعاً رغم إدراكه بخطورة الموقف ، كانت الفتاة التي معه والتي لا يعرف من هي وماذا تفعل معه واقفة خلفه وكأنها تحتمي به ، وقف الوشق يزمجر متأهباً للانقضاض على ضحيته فأخذ يجول بعينيه أيهما يفتك به أولاً ، كان أحمد علي ضخماً مما يبث الرعب في قلوب الخصوم ولكن الوشق الذي قابل مئات الرجال بأشكالهم وأنواعهم ، قويهم وضعيفهم ، شجاعهم وجبانهم ، كل أولئك كانت نهايتهم في معدته الجبارة بدون تمييز وبذلك فهذا الضخم الماثل أمامه سيكون ضحية أخرى له ومعه الكائن الضعيف الذي يقف خلفه . عاد الوشق وزمجر ولطبق الهناء قد تصور ، فأستعد وجهز وقال في نفسه رجل أم معز سيكون ميتاً لا محالة وبعدها أنام نومة الهبالة .
قفز الوشق مع صرخات الأمازونيات التي بدا التوحش يبرق في عيونهن الجميلة ، وكأنهن اصطبغن باللون الأحمر القاني أخذن يزمجرن مثل سيدهن ورمز قوتهن ، تعالت الرماح في الأعلى وهبطت بكل قوة فوق الأرض ترجها رجاً وتدكها دكاً مع صوت خطواتهن الذي يملأ المكان :
- هيا يا سيدنا ، ورمز قوتنا ، بث إلينا من قوتك عبر هذا الرجل وطهر قلوبنا من رجس نجاسته عبر هذه الفتاة الدنسة
كانت ريان هي المتحدثة والتي كانت ممسكة بيد معلمة الأمازونيات وأمهم الروحية بعثرة تستمد منها الطمأنينة والقوة والأمان . نظرت بعثرة لتلميذتها الجديدة – السابقة بتقزز وهي تحتمي برجل ليحميها من بطش الرمز – السيد ، فكرت أن تأخذ حصاة وترميها هذه الخائنة إلا أن التقاليد والطقوس التي هي من وضعت لمساتها الأخيرة فيها منذ ما يقارب العشرين سنة تمنعها أن تتعدى هذا الأمر .

تراجع أحمد علي خطوات مبتعداً عن الوشق الذي هبط بالقرب منه ، لم يكن يملك سلاحاً ولا عصا يدافع عن نفسه به ، نظر تجاه الأمازونيات :
- هل هذا هو العدل ، رجل أعزل ؟
كانت الإجابة مباشرة بمزيج من الصراخ ومزيج من ضربات الأرض . تقدم الوشق من جديد لينال حصته فيبدو أن هذه الضحية تمتاز بهدوء الأعصاب وهي المرة الأولى التي يقابل فيها مثل هذا النوع من الضحايا .

كل ما كان أحمد علي يفكر فيه العائق الذي معه والمتمثل في هذه الفتاة الخائفة ، لو كان لوحده فلربما تعامل بطريقة مباشرة مع هذا الوحش ولكنها وجمودها بسبب الخوف يجعل تحركاته بشكل غير مدروس ، مثل هذا الوحش لم يمر عليه من قبل ولكنه تعامل في دورات عسكرية مع بعض الحيوانات الشرسة مثل الكلاب والذئاب وكان تعامله في غاية القسوة ، هكذا تعلم وتعامل ، لا رحمة لعدو فإن لم تقتله قتلك ، كان مستعداً لأن يأكل لحمه ولو كان إنساناً في حالة الاضطرار .
- ابقي خلفي وابتعدي خطوات .. عشرين خطوة على الأقل .. ولكن بحذر .. ودعي الباقي لي .
أومأت سماهر برأسها دلالة الفهم فأخذت تبتعد خطوة وإن كانت مرتبكة ، متبعثرة وخائفة ، حالما شعر بنزوح الفتاة عنها حتى وقف أحمد علي وقد ثبت رجليه جيداً في استعداد تام لتلقي وثبة الوشق .
وهذا ما تم الوشق وثبته الجبارة فاتحاً فاه مبرزاً أنيابه الطويلة وسقط على أحمد علي الذي لم يتحمل وزن الوشق الضخم رغم قوة عضلاته فسقط معه ووضع كلتا يديه في فك الوشق محاولاً منعه من العض والالتهام .
سماهر المرعوبة وقفت مشدوهة أمام المنظر ، فكرت لحظتها أن تضرب الوشق بشيء ما ولكن ماهو ؟ لم تجد شيئاً وإن وجدت هل كانت ستمتلك الشجاعة لأن تضرب هذا الحيوان الجبار ؟ . كانت رقبة الوشق تمتد رويداً رويداً ناحية رأس أحمد علي الذي يصارع بكل ما أؤتي من قوة ليبقيه بعيداً عنه ولكن لكل جسم طاقة وحدود فقد بان التعب على محياه وعلم بنهايته إن لن يتصرف ، حركة سريعة هو كل ما يحتاجه ولكن هل باستطاعته فعل ما جال بخاطره تلك اللحظة ، لم يكن هناك إلا هو ، وسريعاً مد يده اليمنى إلى الرمل وبسرعة مهولة نثر الرمل في عيني الوشق الذي تراجع خطوات مذعوراً ومتفاجئاً من هذه الحركة المباغتة ، هذه الخطوات المتراجعة هي كل ما يحتاجه أحمد علي الذي ركل الوشق في منطقة الرقبة باحترافية شديدة سقط على أثرها الحيوان المفترس وسقط معه قلوب الأمازونيات اللاتي وقفن مشدوهات محتارات في أمرهن وقد كان وقع المفاجأة من الشدة ما جعلهن مشلولات حتى صرخت ريان :
- لقد قتل الرجل رمزكم .... لا تسكتن عنه .. اقتلوه
تعالت الصيحات في جميع أرجاء المسرح الروماني الشكل مع وقع خطوات الحرب والويل والثبور ، تراجع كل من أحمد علي وسماهر إلى الخلف يحاولان الاحتماء بالجدار قبل أن يسمع صوت بعثرة البعيد :
- توقفن .... لا يجوز لكم قتله .
نظرت ريان بشراسة جهة المعلمة حكيمة الأمازونيات :
- ماذا ؟ نتوقف ...
- من يقتل الرمز يصبح رمزاً هذا هو القانون
- لكنه رجل ... نحن نكره الرجل ...
قالتها ريان بحدة وشراسة وهي تتطلع جهة بعثرة ، ولكن العجوز- الصبية نظرت إليها بكل هدوء :
- والوشق من جنس الذكور ومع ذلك فنحن نقدسه .... أيتها الأمازونيات
قالت كلمتها الأخيرة بصوت تخشع له القلوب :
- امتثلن لسيدكن ورمز قوتكن بالخضوع .


أطل الوزغ برأسه ليتأكد أن كل شيء على ما يرام فقد جهز نفسه لسفر لا رجعة فيه فقد كانت كلمات تلكم المتوحشة ترن في أذنيه :
- الفالفة فابتة
ومن خلال علمه في علم الصوتيات فقد كانت الترجمة الأقرب هي أحد الخيارين :
ا ) الفالتة تالفة
ب ) التالفة فالتة
ولذلك فقد قرر أن يرحل بأقصى سرعة ممكنة فجهز حقائب السفر وودع أهله وأحبابه اللذين كانوا على وشك الانقراض ولكنهم أبوا أن يتركوا وطنهم الأم .
بعدما تأكد من خلو الطريق مد رجله اليمنى أتبعها باليسرى أتبعها بالرجل الأمامية اليسرى ونهايتها باليمنى ومن أن استعد للركض ناحية أوراق الشجر حتى وجد نفسه معلقاً في الهواء بواسطة أصابع غليظة ثخينة فعلم وتيقن أن صائدته ما هي إلا تلكم المتوشحة والمسماة زوراً وبهتاناً بتول محمد .
ابتسمت الصغيرة العملاقة وظهرت أسنانها المتفرقة :
- يم يم يمي
بلع الوزغ ريقه وظهرت على أثرها عروقه ، وانطفاً من عينه بريقه وشعر أن في داخله حريقة فتشهد على نفسه ونظرة بحسرة على شبابه وودع من حوله اللذين كانوا يتطلعون إليه من بعيد :
- ما هذة الرزالة بتووولوه بثلاث وواوات ؟ اتركي الوزغ عنك فقد أعددت لك لحماً مشوياً .
ما أن سمعت بتول محمد دبدوبتها ~ زمردة ~ التي ذكرت اللحم المشوي حتى سال لعابها الذي أغرق الوزغ وما حوله بعد أن رمته على الأرض غير عابئة به فعلم الوزغ أن الأيام الشداد قد ولت وانتهت فذهب إلى أهله مستبشراً فأقاموا الأفراح والليالي الملاح .
دخلت بتول محمد إلى المغارة التي يرقد فيها الناي الحزين بعدما صرعته في معركتهما الأخيرة والتي لولا تدخل ~ زمردة ~ في الوقت المناسب لكان رجل الكهف في خبر كان .
هجمت بتول محمد تريد نهش اللحم بدون رحمة ولكن الملعقة الكبيرة والتي تسمى الملاس في بعض اللغات الإفريقية والتي كانت بيد ~ زمردة ~ كانت بالمرصاد لبتول التي فوجئت من المعاملة القاسية لدبدوبتها :
- بتول .. يا بتولة ؟ يا بتلاتي .. ألا ترين أحدهم يرقد على فراش المرض .. إضافة إلى أنه سيد المكان فيجب علينا احترامه أولاً .. دعيه يأكل وبعد ذلك لكِ ما تشائين .
- ضوعانه <<<< ( بمعنى جائعة جداً جداً جداً وقد نطقت ضاد بدلاً من جيم )
ولكن ~ زمردة ~ اقتربت منها وضمتها إلى صدرها بكل حنان فذهب التشنج الذي أصابها بسبب الجوع
- عليك بالصبر .. فحالما يأكل رجلنا نأكل من فضل خيره .
سكتت بتول محمد غير مدركة ما تخطط له ~ زمردة ~ وصبرت نفسها ما دام أنها بجوار حبيبتها وقرة عينها ودبدوبتها فابتسمت ابتسامة رضا ونامت قريرة العين في انتظار السي سيد أن يستيقظ من نومه العميق .
بدون أن يتنحنح أو يطرق الباب دخل عبدالله خميس فجأة على الخليفة والعريس الجديد صارخاً :
- يا مولاي . يا مولاي ... خبر عاجل يا مولاي
اعتدل كل من زهدي وزينب عبدالله اللذان كانا يتناغيان كعصافير من عصافير الجنة لا يكدر صفوهما إلا دخول عبدالله خميس بين لحظة وأخرة وبين حجة وأخرى إلا هذه المرة فقد شعر زهدي أن الأمر يتعلق بأبي حسام :
- ماذا وراءك ؟
ابتسم عبدالله لشعوره بأهميته لدى الخليفة ثم عاد وقطب جبينه دلالة على أهمية الأمر :
- أبو حسام يا مولاي .
- ما به ؟
- وصلني خبر غريب اليوم من أحد الجواسيس الذين طلبت مني زرعهم هناك أن أبو حسام متواجداً في منجم الفحم ، وقد هرب اليوم .
- هرب ؟
قالها زهدي بلهجة مشوبة بالخوف فبلع ريقه ونطق بصعوبة وكان مع التعثر لصيقة :
- أين هرب ؟ وممن ؟ط
- ليست لدينا معلومات كافية .. ولكن إن شئت ....
أمسك زهدي بكتف معاونه الخاص بدة بالغة :
- أسمع يا عُبد .. ربما كان الإمبراطور لا يريد أن يعرف أحد ما منا ما جرى هناك ... ولكن أريد منك الاستفسار إن أمكن إلى أين اتجه ؟ ومع من ؟ ماذا يأكل ؟ ماذا يشرب ؟ انت تعرف أن الإمبراطور قدوتنا جميعاً ويجب أن نحتذي به في الصغيرة والكبيرة


استند كل من نسيم وبحراوي على ظهر الآخر في محاولة لحماية زميله من جمع المقنعين المحيطين بهما ، كان نسيم شاهراً موس الحلاقة الفضي اللون بينما الجماعة تقترب منهما رويداً رويداً :
- إن اقترب أحدكم فسوف .....
- ماذا ؟ سوف تذبحه من الوريد إلى الوريد ؟ هيا أرني ماذا ستفعل أمام هذه ؟
قالها من يبدو عليه أنه قائدهم ومد يده فامتدت اليد الطويلة لتصبح أطول ثم أطول وكأنها مصنوعة من المطاط الطبيعي ، حالما رأى نسيم هذا المنظر أصفر وجهه وحار في أمره فأخذ بحراوي المشرط بسرعة وأسقطها على الذراع الممتدة فانشطرت إلى نصفين ولكن الشاب ضحك ضحكة مجلجلة تراجع على أثرها بحراوي :
- أوه ياله من ألم مبرح ... بصراحة ليست مؤلمة
أثناء تكلمه كانت اليد تنمو من جديد وكأنها يد جديدة لم تقطع من قبل :
- Alooosh
قالها الشاب القائد وهو ينظر للواقف بجواره :
- تأمرني أمر .. شو بدك عقيل ؟
- تكلم بكلام مفهوم
قالها عقيل خميس وهو يزم شفتيه بينما Alooosh يضحك ضحكة خافتة مخفياً عينيه وراء نظارة شمسية .
- يبدو أن أصدقائنا لا يعرفون إلا لغة القوة أرهم
- إن كنت تحب ذلك
قالها وأمال نظارته قليلاً ونظر ناحية الموس الفضي فتحول إلى خشب فذهلا الهاربان وعلما أنهما وقعا في مطب لا خروج منه .



نهاية الجزء الأول